سورة ص - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير: {عَبْدَنَا} على الواحد وهي قراءة ابن عباس، ويقول إن قوله: {عَبْدَنَا} تشريف عظيم، فوجب أن يكون هذا التشريف مخصوصاً بأعظم الناس المذكورين في هذه الآية وهو إبراهيم وقرأ الباقون: {عِبَادِنَا} قالوا لأن غير إبراهيم من الأنبياء قد أجري عليه هذا الوصف فجاء في عيسى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] وفي أيوب: {نِعْمَ العبد} [ص: 44] وفي نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] فمن قرأ (عبدنا) جعل إبراهيم وحده عطف بيان له، ثم عطف ذريته على عبدنا وهي إسحاق ويعقوب، ومن قرأ (عبادنا) جعل إبراهيم وإسحاق ويعقوب عطف بيان لعبادنا.
المسألة الثانية: تقدير الآية كأنه تعالى قال: فاصبر على ما يقولون واذكر عبادنا داود إلى أن قال: واذكر عبادنا إبراهيم أي واذكر يا محمد صبر إبراهيم حين ألقي في النار، وصبر إسحاق للذبح، وصبر يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره. ثم قال: {أُوْلِي الأيدى والأبصار}، واعلم أن اليد آلة لأكثر الأعمال والبصر آلة لأقوى الإدراكات، فحسن التعبير عن العمل باليد وعن الإدراك بالبصر.
إذا عرفت هذا فنقول النفس الناطقة الإنسانية لها قوتان عاملة وعالمة، أما القوة العاملة فأشرف ما يصدر عنها طاعة الله، وأما القوة العالمة فأشرف ما يصدر عنها معرفة الله، وما سوى هذين القسمين من الأعمال والمعارف فكالعبث والباطل، فقوله: {أُوْلِى الأيدى والأبصار} إشارة إلى هاتين الحالتين.
ثم قال تعالى: {إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: {بِخَالِصَةٍ} قرئ بالتنوين والإضافة فمن نون كان التقدير أخلصناهم أي جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها وهي ذكرى الدار، ومن قرأ بالإضافة فالمعنى بما خلص من ذكرى الدار، يعني أن ذكرى الدار قد تكون لله وقد تكون لغير الله، فالمعنى إنا أخلصناهم بسبب ما خلص من هذا الذكر.
المسألة الثانية: في ذكرى الدار وجوه الأولى: المراد أنهم استغرقوا في ذكرى الدار الآخرة وبلغوا في هذا الذكر إلى حيث نسوا الدنيا الثاني: المراد حصول الذكر الجليل الرفيع لهم في الدار الآخرة الثالث: المراد أنه تعالى أبقى لهم الذكر الجميل في الدنيا وقبل دعاءهم في قوله: {واجعل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الأخرين} [الشعراء: 84].
ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار} أي المختارين من أبناء جنسهم والأخياء جمع خير أو خير على التخفيف كأموات في جمع ميت أو ميت، واحتج العلماء بهذه الآية في إثبات عصمة الأنبياء قالوا لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخياراً على الإطلاق، وهذا يعم حصول الخيرية في جميع الأفعال والصفات بدليل صحة الاستثناء وبدليل دفع الإجمال.
ثم قال: {واذكر إسماعيل واليسع وَذَا الكفل وَكُلٌّ مّنَ الأخيار} وهم قوم آخرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين الله، وقد ذكرنا الكلام في شرح هذه الأسماء وفي صفات هؤلاء الأنبياء في سورة الأنبياء وفي سورة الأنعام، فلا فائدة في الإعادة، وهاهنا آخر الكلام في قصص الأنبياء في هذه السورة.


{هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)}
اعلم أن في قوله: {ذُكِرَ} وجهين:
الأول: أنه تعالى إنما شرح ذكر أحوال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام لأجل أن يصبر محمد عليه السلام على تحمل سفاهة قومه فلما تمم بيان هذا الطريق وأراد أن يذكر عقيبه طريقاً آخر يوجب الصبر على سفاهة الجهال، وأراد أن يميز أحد البابين عن الآخر، لا جرم قال: {هذا ذِكْرُ}، ثم شرع في تقرير الباب الثاني فقال: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} كما أن المصنف إذا تمم كلاماً قال هذا باب، ثم شرع في باب آخر، وإذا فرغ الكاتب من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر قال هذا وقد كان كيت وكيت، والدليل عليه أنما لما أتم ذكر أهل الجنة وأراد أن يردفه بذكر أهل النار قال: {هذا وَإِنَّ للطاغين} [ص: 55] الوجه الثاني: في التأويل، أن المراد هذا شرف وذكر جميل لهؤلاء الأنبياء عليهم السلام يذكرون به أبداً، والأول هو الصحيح.
أما قوله: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لحُسْن مَئَابٍ}.
فاعلم أنه تعالى لما حكى عن كفار قريش سفاهتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بأن وصفوه بأنه ساحر كذاب، وقالوا له على سبيل الاستهزاء {رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا} [ص: 16] فعند هذا أمر محمداً بالصبر على تلك السفاهة، وبين أن ذلك الصبر لازم من وجهين:
الأول: أنه تعالى لما بين أن الأنبياء المتقدمين صبروا على المكاره والشدائد، فيجب عليك أن تقتدي بهم في هذا المعنى الثاني: أنه تعالى بين في هذه الآية أن من أطاع الله كان له من الثواب كذا وكذا، ومن خالفه كان له من العقاب كذا وكذا، وكل ذلك يوجب الصبر على تكاليف الله تعالى، وهذا نظم حسن وترتيب لطيف.
أما قوله تعالى: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لحُسْن مَئَابٍ} المآب المرجع.
واحتج القائلون بقدم الأرواح بهذه الآية، وبكل آية تشتمل على لفظ الرجوع ووجه الاستدلال، أن لفظ الرجوع إنما يصدق لو كانت هذه الأرواح موجودة قبل الأجساد، وكانت في حضرة جلال الله ثم تعلقت بالأبدان، فعند انفصالها عن الأبدان يسمى ذلك رجوعاً وجوابه: أن هذا إن دل فإنما يدل على أن الأرواح كانت موجودة قبل الأبدان، ولا يدل على قدم الأرواح.
ثم قال تعالى: {جنات عَدْنٍ} وهو بدل من قوله: {لَحُسْنَ مَئَابٍ} ثم قال: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في تأويل هذا اللفظ وجوهاً الأول: قال الفراء: معناه مفتحة لهم أبوابها، والعرب تجعل الألف واللام خلفاً من الإضافة، تقول العرب: مررت برجل حسن الوجه، فالألف واللام في الوجه بدل من الإضافة والثاني: قال الزجاج: المعنى: مفتحة لهم الأبواب منها الثالث: قال صاحب الكشاف {الأبواب} بدل من الضمير، وتقديره مفتحة هي الأبواب، كقولك ضرب زيد اليد والرجل، وهو من بدل الاشتمال.
المسألة الثانية: قرئ: {جنات عَدْنٍ} مفتحة بالرفع على تقدير أن يكون قوله: {جنات عَدْنٍ} مبتدأ و{مُّفَتَّحَةً} خبره، وكلاهما خبر مبتدأ محذوف، أي هو جنات عدن مفتحة لهم.
المسألة الثالثة: اعلم أنه تعالى وصف من أحوال أهل الجنة في هذه الآية أشياء الأول: أحوال مساكنهم، فقوله: {جنات عَدْنٍ} يدل على أمرين أحدهما: كونها جنات وبساتين والثاني: كونها دائمة آمنة من الانقضاء.
وفي قوله: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} وجوه:
الأول: أن يكون المعنى أن الملائكة الموكلين بالجنان إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له أبوابها وحيوه بالسلام، فيدخل كذلك محفوفاً بالملائكة على أعز حال وأجمل هيئة، قال تعالى: {حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خالدين} [الزمر: 73].
الثاني: أن تلك الأبواب كلما أرادوا انفتاحها انفتحت لهم، وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم الثالث: المراد من هذا الفتح، وصف تلك المساكن بالسعة، ومسافرة العيون فيها، ومشاهدة الأحوال اللذيذة الطيبة.
ثم قال تعالى: {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا} يدعون فيها، وفيه مباحث:
البحث الأول: أنه تعالى ذكر في هذه الآية كونهم متكئين في الجنة، وذكر في سائر الآيات كيفية ذلك الاتكاء، فقال في آية: {عَلَى الأرائك مُتَّكِئُونَ} [يس: 56] وقال في آية أخرى: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ} [الرحمن: 76].
البحث الثاني: قوله: {متكئين فيها} حال قدمت على العامل فيها وهو قوله: {يَدْعُونَ فِيهَا} والمعنى يدعون في الجنات متكئين فيها ثم قال: {بفاكهة كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} والمعنى بألوان الفاكهة وألوان الشراب، والتقدير بفاكهة كثيرة وشراب كثير، والسبب في ذكر هذا المعنى أن ديار العرب حارة قليلة الفواكه والأشربة، فرغبهم الله تعالى فيه.
ولما بين تعالى أمر المسكن وأمر المأكول والمشروب ذكر عقيبه أمر المنكوح، فقال: {وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف} وقد سبق تفسيره في سورة والصافات، وبالجملة فالمعنى كونهن قاصرات عن غيرهم مقصورات القلب على محبتهم، وقوله: {أَتْرَابٌ} أي على سن واحد، ويحتمل كون الجواري أتراباً، ويحتمل كونهن أتراباً للأزواج، قال القفال: والسبب في اعتبار هذه الصفة، أنهن لما تشابهن في الصفة والسن والحلية كان الميل إليهن على السوية، وذلك يقتضي عدم الغيرة.
ثم قال تعالى: {هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب} يعني أن الله تعالى وعد المتقين بالثواب الموصوف بهذه الصفة، ثم إنه تعالى أخبر عن دوام الثواب فقال: {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَالَهُ مِن نَّفَادٍ}.


{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)}
اعلم أنه تعالى لما وصف ثواب المتقين، وصف بعده عقاب الطاغين، ليكون الوعيد مذكوراً عقيب الوعد، والترهيب عقيب الترغيب.
واعلم أنه تعالى ذكر من أحوال النار أنواعاً فالأول: مرجعهم ومآبهم، فقال: {هذا وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ مَئَابٍ} [ص: 55] وهذا في مقابلة قوله: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لحُسْن مَئَابٍ} [ص: 49] فبين تعالى أن حال الطاغين مضاد لحال المتقين، واختلفوا في المراد بالطاغين، فأكثر المفسرين حملوه على الكفار، وقال الجبائي: إنه محمول على أصحاب الكبائر سواء كانوا كفاراً أو لم يكونوا كذلك، واحتج الأولون بوجوه:
الأول: أن قوله: {لَشَرَّ مَئَابٍ} يقتضي أن يكون مآبهم شراً من مآب غيرهم، وذلك لا يليق إلا بالكفار الثاني: أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: {أتخذناهم سِخْرِيّاً} وذلك لا يليق إلا بالكفار، لأن الفاسق لا يتخذ المؤمن سخرياً الثالث: أنه اسم ذم، والاسم المطلق محمول على الكامل، والكامل في الطغيان هو الكافر، واحتج الجبائي على صحة قوله بقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّءاهُ استغنى} [العلق: 6، 7] وهذا يدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل في حق صاحب الكبيرة، ولأن كل من تجاوز عن تكاليف الله تعالى وتعداها فقد طغى، إذا عرفت هذا فنقول: قال ابن عباس رضي الله عنهما، المعنى أن الذين طغوا وكذبوا رسلي لهم شر مآب، أي شر مرجع ومصير، ثم قال: {جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} والمعنى أنه تعالى لما حكم بأن الطاغين لهم شر مآب فسره بقوله: {جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} ثم قال: {فَبِئْسَ المهاد} وهو كقوله: {لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] شبه الله ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم.
ثم قال تعالى: {هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: فيه وجهان الأول: أنه على التقديم والتأخير، والتقدير هذا حميم وغساق فليذوقوه الثاني: أن يكون التقدير جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه، ثم يبتدئ فيقول: حميم وغساق.
المسألة الثانية: الغساق بالتخفيف والتشديد فيه وجوه:
الأول: أنه الذي يغسق من صديد أهل النار، يقال: غسقت العين إذا سال دمعها.
وقال ابن عمر هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه الثاني: قيل الحميم يحرق بحره، والغساق يحرق ببرده، وذكر الأزهري: أن الغاسق البارد، ولهذا قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار الثالث: أن الغساق المنتن حكى الزجاج لو قطرت منه قطرة في المشرق لأنتنت أهل المغرب، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لأنتنت أهل المشرق الرابع: قال كعب: الغساق عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذات حمة من عقرب وحية.
المسألة الثالثة: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم غساق بتشديد السين حيث كان والباقون بالتخفيف.
قال أبو علي الفارسي الاختيار التخفيف لأنه إذا شدد لم يخل من أن يكون اسماً أو صفة، فإن كان اسماً فالأسماء لم تجيء على هذا الوزن إلا قليلاً، وإن كان صفة فقد أقيم مقام الموصوف والأصل أن لا يجوز ذلك.
ثم قال تعالى: {وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أزواج} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمر {وَأَخَّرَ} بضم الألف على جمع أخرى أي أصناف أخر من العذاب، وهو قراءة مجاهد والباقون آخر على الواحد أي عذاب آخر، أما على قراءة الأولى فقوله وأخر أي ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق، أي من مثله في الشدة والفظاعة، أزواج أي أجناس، وأما على القراءة الثانية فالتقدير وعذاب أو مذوق آخر، وأزواج صفة لآخر لأنه يجوز أن يكون ضروباً أو صفة للثلاثة وهم حميم وغساق وآخر من شكله.
قال صاحب الكشاف: وقرئ من شكله بالكسر وهي لغة، وأما الغنج فبالكسر لا غير.
واعلم أنه تعالى لما وصف مسكن الطاغين ومأكولهم حكى أحوالهم الذين كانوا أحباء لهم في الدنيا أولاً، ثم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا ثانياً أما الأول: فهو قوله: {هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} واعلم أن هذا حكاية كلام رؤساء أهل النار يقوله بعضهم لبعض بدليل أن ما حكى بعد هذا من أقوال الأتباع وهو قوله: {قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا}، وقيل إن قوله: {هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم، وقوله: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النار} كلام الرؤساء، وقوله: {هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} أي هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار كما كانوا قد اقتحموا معكم في الجهل والضلال، ومعنى اقتحم معكم النار أي دخل النار في صحبتكم، والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها، والقحمة الشدة.
وقوله تعالى: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ} دعاء منهم على أتباعهم، يقول الرجل لمن يدعو له مرحباً أي أتيت رحباً في البلاد لا ضيقاً أو رحبت بلادك رحباً، ثم يدخل عليه كلمة لا في دعاء السوء، وقوله: {بِهِمُ} بيان للمدعو عليهم أنهم صالوا النار تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] قالوا أي الأتباع {بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ} يريدون أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به، وعللوا ذلك بقولهم: {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} والضمير للعذاب أو لصليهم، فإن قيل ما معنى تقديمهم العذاب لهم؟ قلنا الذي أوجب التقديم هو عمل السوء قال تعالى: {ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق * ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 181، 182] إلا أن الرؤساء لما كانوا هم السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه قيل أنتم قدمتموه لنا فجعل الرؤساء هم المقدمين وجعل الجزاء هو المقدم، والضمير في قوله: {قَدَّمْتُمُوهُ} كناية عن الطغيان الذي دل عليه قوله: {وَإِنَّ للطاغين لشَرُّ مَئَابٍ} وقوله: {فَبِئْسَ القرار} أي: بئس المستقر والمسكن جهنم، ثم قالت الأتباع {رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً} أي مضاعفاً ومعناه ذا ضعف ونظيره قوله تعالى: {رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا} [الأعراف: 38] وكذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا * رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب} [الأحزاب: 67، 68] فإن قيل كل مقدار يفرض من العذاب فإن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفاً، وإن كان زائداً عليه كان ظالماً وإنه لا يجوز.
قلنا المراد منه قوله عليه السلام: «ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» والمعنى أنه يكون أحد القسمين عذاب الضلال، والثاني عذاب الإضلال، والله أعلم.
وهههنا آخر شرح أحوال الكفار مع الذين كانوا أحباباً لهم في الدنيا، وأما شرح أحوالهم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا فهو قوله: {وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الأشرار} يعني أن الكفار إذا نظروا إلى جوانب جهنم فيحنئذ يقولون: {مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الأشرار} يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه بهم وسموهم من الأشرار، إما بمعنى الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى، أو لأنهم كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشراراً ثم قالوا: {أتخذناهم سِخْرِيّاً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي {مّنَ الأشرار أتخذناهم} بوصل ألف {أتخذناهم} والباقون بفتحها على الاستفهام، قال أبو عبيد وبالوصل يقرأ لأن الاستفهام متقدم في قوله: {مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً}، ولأن المشركين لا يشكون في اتخاذهم المؤمنين في الدنيا سخرياً، لأنه تعالى قد أخبر عنهم بذلك في قوله: {فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى} [المؤمنون: 110] فكيف يحسن أن يستفهموا عن شيء علموه؟ أجاب الفراء عنه بأن قال هذا من الاستفهام الذي معناه التعجيب والتوبيخ، ومثل هذا الاستفهام جائز عن الشيء المعلوم، أما وجه قول من ألحق الهمزة للاستفهام أنه لابد من المصير إليه ليعادل قوله: {أتخذناهم} بأم في قوله: {أَمْ زَاغَتْ عنهُمْ} فإن قيل فما الجملة المعادلة لقوله: {أَمْ زَاغَتْ} على القراءة الأولى؟ قلنا إنها محذوفة والمعنى المقصودون هم أم زاغت عنهم الأبصار.
المسألة الثانية: قرأ نافع {سِخْرِيّاً} بضم السين والباقون بكسرها، وقيل هما بمعنى واحد وقيل بالكسر هو الهزء وبالضم هو التذليل والتسخير.
المسألة الثالثة: اختلفوا في نظم الآية على قولين بناء على القراءتين المذكورتين أما القراءة على سبيل الإخبار فالتقدير ما لنا لا نراهم حاضرين لأجل أنهم لحقارتهم تركوا، أو لأجل أنهم زاغت عنهم الأبصار. ووقع التعبير عن حقارتهم بقولهم: {أتخذناهم سِخْرِيّاً} وأما القراءة على سبيل الاستفهام، فالتقدير لأجل أنا قد اتخذناهم سخرياً وما كانوا كذلك فلم يدخلوا النار، أم لأجل أنه زاغت عنهم الأبصار، واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذه المناظرة قال إن ذلك الذي حكينا عنهم لحق لابد وأن يتكلموا به، ثم بين أن الذي حكيناه عنهم ما هو، فقال: {تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} وإنما سمى الله تعالى تلك الكلمات تخاصماً لأن قول الرؤساء {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ} وقول الأتباع {بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ} من باب الخصومة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5